دهشة الفضول

يولد الطّفل وعيناه وحواسّه متعطّشة لاكتشاف التفاصيل، فكل ما حوله غريب عنه ويسعى بما يمتلكه من قدرات بسيطة وبنية ضعيفة إلى التعرف على كل شيء وسبر أغوار الحياة من حوله، حتى لو كان في ذلك مخاطرة بأكثر ألعابه التي يحبّها محاولاً اقتلاع إحدى عينيها وهو يحاول فهم ماهيتها، أو التضحية بإحدى يديه ساعياً لاكتشاف ذلك الوهج الحار وما قد يؤدي إليه الاقتراب منه ليكتشف سريعاً بأن تلك النّار مصدر ألم وكان عليه أن يفهم تعليمات أبويه في إبعاده عنها، أو مرآة والدته أو سيارة والده، كل ما يقوم بفعله يفعله بدافع الفُضول ورغبة الاكتشاف الملحّة، ينمو فُضول ذلك الطّفل ويكبر ويصبح ابتعاده عن النّار أمراً بديهيّاً، وعين دُميته باتت حقيقة بين يديه في كتاب العلوم وقد تعرّت وانكشفت له الحقائق حولها، وتبدأ دهشة بعض التفاصيل تذبل في عينيه ويصبح كل شيء اعتياديّاً وكلّما تقدّم في العمر تشبّع الفضول لديه ولُبّيت رغباته وخفت بريق دهشة الأطفال في عينيه.

الفضول يبقى فعل حي طالما لم يزل الإنسان على وجه الحياة يسعى وعدّاد عمره مُستمر، ولكن نختلف في تغذية هذه الرّغبة التي تولد معنا، فمنّا من يسعى لاكتشاف التّفاصيل الكون ويثير شغفه علم المجرّات فيغرق بين الكتب والمجلات العلميّة ويتأمل كثيراً ويقرأ في الأساطير والعلوم المختلفة، كي تتشكّل لديه الصورة الأصح حول ما يبحث عنه، يسعى لتلك الدّهشة التي أضاءت قلبه عندما كان طفلاً، وآخر فاضت رغبته العارمة في فكّ تراكيب اللّغة ومعرفة المفردات وتكوين القصيدة متكاملة البُنية فلا ينفك عن القراءة ومتابعة كبار الشّعراء وأهم كُتاب عصره وأبرز من ذكر أسماءهم التاريخ، ليبني ما من شأنه أن يُغدق عليه بالرّضا وليصل عبر فُضوله إلى تحقيق حلم راوده في إتمام ديوانه الأول كما يليق أن يرتبط باسمه، وتكثر الأمثلة في ذلك، فنيوتن أثار فُضوله تفاحة سقطت على رأسه ليصل عبر فضوله الصحّي إلى اكتشاف قانون الجاذبية، وكأول عربي يحصل على جائزة نوبل في الكيمياء مثالنا الحي في الفضول والبحث النّهم الحميد هو الدكتور "أحمد زويل"، ورجل تسويق آخر يتعمّق في بحره وينهل من أعلامه ما استطاع فالقوّة في المعرفة، والمعلومة تُعد كنزاً في يد صاحبها، وربّما أشخاص لم يخلّد التاريخ أسماءهم سعوا بفضولهم الصحي إلى  خلق مجتمع أفضل وبنو بسواعدهم الكثير فتركيزهم كان منصبّا على ما فيه نفع وفائدة. 

ولكن يبقى هناك تلك الفئة المتشوّقة لنهل أخبار الآخرين ممّا يعني أو لا يعني لهم، يتتبعون العورات ويلقفون الناس بألسنتهم، يثير فضولهم مشكلة قابعة خلف السّتار في منزل أحدهم وفضيحة لمشهور تناقلتها الصحف فبات خجلاً يتوارى بها عن الأنظار، يسألون بلا توقّف عن خصوصيّة أحد ما ويلهثون خلف معلومة قد تزعج أحدهم، يثيرون شفقة أنفسهم، فتركيزهم غير منصب على أهدافهم أو آمال بنوها كي يحصدون ثمارها، بل معقودة في أقدام الآخرين فيسيرون خلفهم ويسحبونهم  بتحركاتهم ، هؤلاء من لم يعرفون قيمة الحياة الحقيقية بعد، ستمضي بهم السنين ليستيقظوا على كابوس بشع يخبرهم بأن ذلك العُمر لم يُحسب وقيمة الشّباب فُقدت بطُرق لم تعد عليهم بالنّفع وصفعتهم تكون بأن ما مضى لن يعود. 

لنخلق فضولنا الحميد ونوجّه ولعنا حيث الفائدة والعائد على المدى القريب والبعيد، دعونا نستعيد دهشة الأطفال وأن لا نختار الانطفاء قبل الأوان، أن لا نتخلى عن الفضول والرغبة الملحة في الاكتشاف ولكن لنحوّرها كيف شئنا نحو أهدافنا وأمنياتنا النبيلة، لنكن فضوليين ولكن بشرف وسمو.